لا یمکن للإنسان أن یعیش من دون متکئ فی الحیاه حسب فطرته. إن خلقه و فطره الإنسان یبحث دائماً عن سبیلٍ للإتکاء. و ینقسم عامه الناس الذین یتخذون سُبُلاً مختلفه للإتکاء فی حیاتهم إلى أربعه أقسام: الطبقه الأولی و هم الطبقه السفلى من البشر یتکئون على المال و الثروه، فهم یتکؤون علی الممتلکات.

أما الطبقه الثانیه و هی أعلى درجه من الطبقه الأولى، لا یتکئون علی المال و الثروه بل علی المنزله و المکانه؛ و هذا مصادیق هذا المتکأ توجد بکثیر علی ساحه العالم.

و أما الطبقه الثالثه فهی تشتمل علی طبقه رفیعه من الناس. إن هذه الطبقه لا تنظر و تهتمّ بأمور الدنیویه کالمال و المنزله و المکانه و المنصب و الرئاسه أو السلطه و قد ترکتها لأهل الدنیا، فوصلت إلى مرحله الإعتماد علی الذات. یقوم إعتمادهم على قدراتهم النفسیه، و هذه الطبقه تشتمل علی کبراء البشریه و هی من أعلى طبقات المجتمع الإنسانی. إن کل همّ هؤلاء الأشخاص الذین وصلوا إلى المدارج الرفیعه هی أن یستخرجوا قدراتهم النفسیه و أن یعتمدوا علیها. فإذا أثمرت هذه القدره النفسیه فستکون قدرتها معجبه؛ و ذلک لأنها إذا تربّی إراده الإنسان و فکره حسب الأصول الصحیحه فسوف تصل قدرته إلى حدٍ رفیع تستطیع أن تسدّ سائر القدرات العظیمه.

إن قدره النفس عجیبه جدا، و لکن لهذه القدره حدود. و لکن لا یمکن تصوّر نهایه و منتهى للکمال، إذ تتصل قدره نفسیه بقدره أزلیّه و أبدیه التی لا حدود لها و عندما تکون قدره النفس تحت سیطرتها الکامله و تأثیرها الشامله، و عند ذلک تکون نتیجتها مثمره.

و هنا یکشف لنا الإمام الجواد (علیه السلام) الستار عن هذه الحقائق، فی ألفاظٍ فی قمّه الظرافه و الفصاحه و البلاغه ، فلقد أودع لنا الإمام جوهراً یبیّن فیه سرّ خلقه الإنسان و مفتاح سعادته و شقاوته.

قال الإمام محمد بن علی الجواد (علیه السلام): “الثّقه بالله ثمنٌ لکلّ غالٍ و سُلّم إلی کلّ عالٍ.”(1)

فی الحقیقه فقد رسم الإمام خط البطلان علی جمیع العالم و ما فیه. فإن هؤلاء الناس الذین یتکؤون على المال فهم خارج عن دائره الإعتبار. و أیضاً الأفراد الذین یتکؤون على السلطه و الحکومه و الرئاسه فهم أیضاً خارج دائره الاعتناء.

إن الأشخاص کأرسطو و افلاطون و نظائرهما و جمیع الحکماء فی مجالی الرأی و العمل الذین یتکؤون على قدراتهم النفسیه و إراداتهم، یظلّون مبهوتین و مدهوشین لهذه الجمله: أیها الإنسان، إن فطرتک یقودک للبحث عن جوهر ثمین مفقود؛ کلما ازدادت قیمتها کانت ذات مصالح و منافع عالیه لک، و هذا هو من إحدی أسرار فطرتک. و أیضاً یمیل فطرتک إلى طلب العلوّ و الأفضلیه، و هذا هو خصیصه أخری من فطره الإنسان.

و لکن کیف یمکننا البحث عن هذین المفقودین فی فطره الإنسان؟ من أین یمکننا البحث عن مطالب فطره الإنسان المفقوده و اللامتناهیه؟ هل هو الإعتماد علی المال؟ فیکون ذلک باطلاً. فإذاً هل هو الإعتماد علی المقام؟ و یکون ذلک أیضاً باطلاً. فهل یکون إذاً الإعتماد علی قدره النفس؟ و هذا أیضاً یکون باطلاً بسبب المحدودیه. فإذاً إن هذا الجوهر المفقود هو المرکز الرابع الذی یتکئ علیها الإنسان؛ و هو الإعتماد و الإتکاء علی لله.

«مأخوذ من محاضره آیه الله العظمی الوحید الخراسانی، (مع بعض التصرف)»(2)

یوم الأخیر من ذی قعده ، یعزی موقع الرشد المسلمین و خاصه أصدقاء الموقع الأعزاء،

بذکرى استشهاد نور الولایه و الهدایه،

الإمام محمد بن علی الجواد (علیه السلام).

الهوامش:

1- أعلام الدین، الصفحه 309

2- لقد ألقی هذه المحاضره فی سنه 1427 هجری بمناسبه إستشهاد الإمام الجواد (علیه السلام) .