أية 55 من سورة المائدة ( أية الولاية )
بسم الله الرحمن الرحيم
« أية الولاية »
«إنّما وليّكم الله و رسوله و الذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون» (أية 55 من سورة المائدة)
بناءاً علی الرؤية الإسلامية مدعومة بشاهد العقل إنّ الإنسان مطالَب بإتّباع أوامر خالقه و طاعته من جميع الجهات بسبب جهله المطبق بما يتجدّد له في کلّ ساعة أو حتّی دقيقة من عمره. فهو بحاجة مبرمة إلی الله في أبسط الأمور من حياته الناميه.
و علی الجانب الآخر إنّ هذا الخالق الذي خلقه، عالم بمن خلق، محيط بأدقّ التفاصيل والأسرار من وجوده، و هو علی علم کذلک ببداية هذا المخلوق و نهايته. من ثمّ إقتضی عقل البشر توجيهه إلی ساحة قدسه لأنّه سبحانه مضافاً إلی ماسلف غنيّ غناءاً مطلقاً في الأمور کلّها و ما هو بمحتاج إلی مخلوقاته و لو کانت حاجة جدّ طفيفة، من ثمّ لا يُتصوّر في حقّه إلّا طلب الخير للإنسان، ولکن بناءاً علی الرؤية الإسلامية هذه الطاعة لا تنحصر بالله وحده، بل علی الإنسان و إمتثالاً لأمر خالقه أن يطيع رسول الله (صلّی الله عليه و آله و سلّم) و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في أموره کلّها و يقتدي بهم. و هنا ينبغي أن يضاف بأنّ الطاعة المطلقة غير المشروطة و لا المقيّدة، بناءاً علی ما تقدّم، مختصّة بالخالق سبحانه. و إمتثالاً لأوامره يجب علینا طاعة النبيّ (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في جميع الأمور. كما أنّ أفعال الرسول و الأئمّة (عليهم السلام) و أقوالهم توضّح النهج الذي يرضي الله علی الأصعدة كافّة، و يؤدّي إلی سعادة الإنسان الأبديّة بدليل سلامة ساحتهم القدسيّة من الأهواء و الشهوات و من تسرّب تلك الإحتمالات إلیها. فهم بلطف الله و حسن تقديره و عنايته معصومون عن الأخطاء و المزالق و الإلتواءات. و حسب تعاليم الإسلامية لا يصحّ للإنسان الخضوع و الطاعة المطلقة لغير الله سبحانه بتاتاً و بغير إشتراط او تقييد، إلّا لمن أمر الله بطاعتهم من النبيّ و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).
و الحجة الأولی الباعثة علی إعتبار هذه المقولة من الخضوع لله و المعصومين هو العقل كما تقدّم توّاً، خلا أنّ الذي يسندها مثولاً مع العقلانيّة البشريّة و يحملها علی الإبقاء و الإستمرار إنّما هي المحبة لله تعالی فهي الباعثه علی دوامها و المفضية إلی كمالها.
و حين یتعمّق الإنسان بالفكر فسوف يجد نفسه مغموراً في بحر الألطاف و النعم الإلهيّة و يدرک أنّ جميع ما لديه، هو من عطايا الله سبحانه. و بالرغم من كفران الإنسان للنعم، فإنّها لم تفارقه في حال من الأحوال. و ليس هذا فحسب بل إنّها تراوحه و تغاديه آناً فآناً. و بناءاً علی هذا يسعی الإنسان أن يسلک سبيل طاعة ربّ رؤوف رحيم كهذا الربّ، و لايؤدي هذا السلوک إلّا إلی كماله و سعادته.
و حقيقة الولاية و مفهومها العامّ الذي تجسّده الرؤية الإسلامية ليس شیء سوی طاعة الله و رسوله و الأئمّة المعصومين. من جهة أخری إنّ العلاقة بين النبيّ الأكرم و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) واحداً بعد آخر و بين المسلمين و الشيعة منهم علی مستوی عميق جداً و ذو جانبين و يبدأ بالجانب الأول من النبيّ و الأئمّة (عليهم السلام) خلال الرحمة و الشفقة علی المسلمين فرداً فرداً. إنّها رحمة و شفقة التي بلغت درجة قصوی عندهم، بحيث يجرّ تألّم مسلم واحد إلی تأثّر خواطرهم و مشاعرهم (و لنا علی ذلک شواهد كثيرة مبثوثة في النصوص الإسلامية.) و من الجانب الآخر فإنّ المسلم لإحراز جميع الكمالات الأخلاقيّة و السجايا الروحيّة في ذوات المعصومين، يحبّهم من صميم قلبه. و هذه العلاقة العميقة بلغت بالإتّباع درجة لم تقتصر علی الطاعة وحدها إزاء أقوال الإمام و أفعاله، بل لا يحسّون بشیء من الإرتياب في خواطر أذهانهم إزاء هذا الإتّباع.
و في القرآن الكريم، كتاب الله المنزل من قِبله، توجد دلائل عدّة في إثبات منزلة الولاية من قبل الله تعالی للرسول الكريم (صلّی الله علیه و آله وسلّم) و للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أول إمام قائم بعده. لکن ولاية سائر الأئمّة تثبت من جانب الله بواسطة إبلاغ النبيّ الأکرم.
و نحن هنا نعمد إلی أية من القرآن الكريم تختصّ بمورد الحديث أي إثبات الولاية علی المؤمنين لله سبحانه و تعالی و لرسوله و لأمير المؤمنين (علیهما السلام)، فنوسّعها بحثاً و تحقيقاً و تأمّلاً إن شاء الله تعالی. و نبدأ أولاً بتحقيق المفردات التي تتركّب الأية منها و التعرّف علی معانيها مستقلّة عن المعنی المجمل للآيه(1) و بعد ذلك نشير إلی ما ورد في سبب النزول. و أخيراً سوف نعمل علی تدبّر في الفقرات المختلفة للآية بدقة و توجه كبيرين بإذن الله.
البحث في مفردات الأية مستقلاً عن مجمل المعنی
إنّما
«إنّما» في اللغة العربيّة تدلّ علی الحصر أي إنّ المتكلّم يأتي باللفظ المستعمل، فيقصّره علی المعنی الخاصّ أو شخص معيّن المقصود له. و مثله يقال في المفاهيم إذا كانت تطلق علی أكثر من معنی مقصود للمتكلّم فإنّه يحدّده بالمعنی الخاصّ المراد له و ينفيه عمّا عداه. مثلاً إذا قيل: «إنّما معبودنا الله» يكون المعنی أنّ الألوهيّة و المعبوديّة منحصرة بالله وحده و سائر الموجودات بمعزل عن هذا التناول. و علی هذا الأساس و تمشّياً مع متطلّبات الدستور في إستعمال هذا اللفظ في اللغة العربيّة (و قد وردت مستوفاة في مواضعها) فإنّ مجيء إنّما في صدر الأية يحصر الولاية في جماعة خاصّة من المؤمنين و بتعبير آخر حصرت الأية عند نزولها في موارد ثلاثة عرّفتهم بالولاية علی المؤمنين و نَفتها عن سائرهم، فيکون معنی الأية علی النحو التالي:
وليّكم فقط الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون.
إيضاح أکثر حول الأداة «إنّما»
في اللغة العربيِّة يُستعمل نوعان من الجملة من حيث التركيب لبيان مفهوم ما. الأولی تسمّی بالجملة الفعلیّة و الأخری تسمّی بالجملة الإسميّة. و الفعلیّة هي مبدوئة بفعل كما أنّ الإسميّة هي مبدوئة بإسم و لكلّ واحدة منهما ارکان لا يتمّ المعنی الّا بها فإذا فقدتها الجملة نقص معناها.
و للمتكلّم طبعاً لحاجته من الكلام أن يضع هذه الأرکان في موضعها من كلامه و له أن يغيّر مواضعها أيضاً. و لفظ الأداة «إنّما» يصحّ استعماله في بداية كلا النوع من الجملتين و يكون أداة الحصر في الجملة. أي يحصر المعنی المقصود بهذه الأداة في آخر ركن من أركان الجملة و هو اللفظ الأخير (أو رکن الذي يقع بعد سائر أرکان الجملة). و لتوضيح المسألة نسوق المثال التالي:
لنفرض بأنّ شخصاً و إسمه محمّد واقف الآن و حينئذ يمكن التعبير عن هذه القضيّة بشكلين:
1- الشخص الواقف محمّد 2- محمّد واقف
و إذا ما استعملنا «إنّما» في المثال الأوّل و بدأنا بها الجملة (إنّما الشخص الواقف محمّد) يكون الوقوف مقصوراً علی محمّد الآتي في آخر الجملة و تعني الجملة: «الواقف هو محمّد و ليس غيره» لا أحد سواه واقف. و لكن وَضع إنّما في المثال الثاني يقصر المعنی علی الوقوف وحده «إنّما محمّد واقف» فحسب و ليس نائماً أو قاعداً. و الآن إلی الأية موضع البحث و لنركز علی الركن الأخير فيها إنّها تخصّ الولاية بمن له الولاية علی المؤمنين و ينتج من ذلك بناءاً علی ما ذكر «إنّما» الأداة تقصر الولاية علی هؤلاء الأقسام الثلاثة و تقول: إنّما وليّكم هؤلاء دون من عداهم، الله و رسوله و المؤمنون المصلّون و يتصدّقون و هم في حال الركوع.
الوليّ
في كتب اللغة مثل «مفردات القرآن» و «لسان العرب» وردت معان عديدة للفظ الوليّ و يمكن الإشارة هنا إلی بعضها مثل «الصهر، الحليف، الصديق، وليّ أمر، الناصر و غير ذلك.»(2) و (3) و قد جاءت هذه المعاني شرحاً للفظ “الوليّ” المستعمل في آيات أخری سوی هذه الأية من القرآن. خلا أنّها في هذه الأية لا تعدّ کثيراً من هذه المعاني تعبيراً صحيحاً عن لفظ الوليّ إذا ما حاولنا تفسيرها بها. و کذلک الأمر بالنسبة إلی آيات الأخری في القرآن الکريم. فلو أنّنا أخذنا الصهر في شرحها ينقلب معنی الأية إلی الحقيقة التالیة: «. . . إنّما أصهارکم الله و رسوله و الذين يعطون الزكاة في حال الركوع» و بطلان هذا المعنی ظاهر للعيان. و المفسّرون نظراً لما قدّمناه أختاروا من هذه المعاني ثلاثةً لتفسير معنی الوليّ الوارد في الأية:
1. الصديق 2. الناصر 3. الأولی بالأمر أو مستحق بالتصرف
و سوف ندرس هذه المعاني الثلاثة في الفصل اللاحق.
الزكاة
و معناه بذل المال في سبيل الله و من مصاديقه دفع المال إلی المساكين و المعوزين و قد أشير إليه في أية الولاية.
الركوع
بما أنّ هذا اللفظ جاء بعد قوله تعالی: «يقيمون الصلاة» فإنّ المقصود به الحالة التي يؤدّيها المقيم الصلاة بعد قرائة الحمد و السورة من طأطأة الرأس و الإنحناء و وضع الید علی الركبتين.
إيضاح أکثر حول لفظ الركوع
للركوع ثلاثة معان. لغويّة و إصطلاحيّة و مجازيّة. معناه اللغويّ خفض الرأس و الإنحناء فإذا ضمّ الفاعل إلیه نيّة القربة و وقع في الصلاة يعتبر عملاً من أعمالها و هذا هو معناه الإصطلاحيّ. و بتعبير آخر معنی الركوع الإصطلاحيّ يؤخذ من خفض الرأس، و هذا بفارق واحد، و هو إنضمام قصد القربة إلیه في حال الصلاة. (و معنی قصد القربة أنّ التوجّه كلّه لله و يكون العمل جميعاً له و لطلب مرضاته لا لغرض آخر) و معنی الركوع المجازيّ هو ذلّ شخص و خضوعه أمام شخص آخر.
و تنبغي الإشارة هنا إلی أنّ أثناء ملاحظة ايّ نصّ من النصوص لا يتبادر إلی الذهن بدءاً إلّا المعنی اللغويّ لألفاظه. فإذا كانت في النصّ علامة خاصّة يؤخذ المعنی الإصطلاحيّ أو الآخر المجازي. و القرآن شأنه شأن النصوص الأخری تُحمل ألفاظه أولاً علی معانيها اللغويّة و بالقرينة يتحوّل الذهن إلی الإصطلاحيّ او المجازيّ من معانيه. و الركوع ليس بدعاً في القاعدة فإذا ورد في القرآن في أيّ موضع كان منه، فيلزم إقتفاءاً للقاعدة أن نتّخذ معناه اللغويّ قبل معانيه الأخری. مثلاً إذا كانت الأية تتحدّث عن الصلاة و المصلّین فإنّ علامة “الصلاة” تدلّ علی أنّ المقصود من الركوع هو المعنی الإصطلاحيّ و في حال وجود علامات تدلّ علی المجاز يكون هو المقصود بالذكر. و في هذه الأية بما أنّ الحديث عن الصلاة (يقيمون الصلاة) المراد من الركوع هو المعنی الإصطلاحيّ أي الفعل المأخوذ في الصلاة هي ركناً من أركانها. (4)
أشرنا فيما قبل بأنه ذُكر للوليّ معان ثلاثة 1. الصديق 2. الناصر 3. الأولی بالأمر و علی أساس ذلك دارت بحوث المفسّرين.
و نحن نسلط الأضواء علی المعنیين الأوّلين (الصديق، الناصر) ثم نتناول المعنی الثالث فنوسّعه بحثاً لنصل إلی المعنی الحق من هذه الكلمة.
الصديق و الناصر
و إذا لاحظنا هذين المعنیين يكون معنی الأية كما يلي: إنّما صديقکم و ناصركم الله و رسوله و الذين أمنوا الذين يؤتون الزكاة حال ركوعهم في الصلاة. قلنا أنفاً بأنّ لفظ «إنّما» أداة حصر و حينئذ عندما نأخذها بنظر الإعتبار هنا و نضمّ إلیها معنی الصديق و الناصر تكون النتيجة هكذا: ليس لنا من صديق و ناصر إلّا الله و رسوله و الذين يعطون الزكاة حال ركوعهم في الصلاة، و بالتوجه إلی هذا المعنی، فليس لنا بعد ذلك صديق و لا ناصر، و لانستطيع التعبير عن أحد بصديقنا أو ناصرنا، و لا يمكن أن نطلق علی من لم يعط الزكاة في حال الركوع صديقاً او ناصراً.
و هذان المعنیان يتناقضان مع سائر الأيات في القرآن الكريم:
«و إن استنصروكم في الدين فعلیكم النصر» (سورة الأنفال، الأية 72) تدلّ هذه الأية علی أنّ النصرة لا تختصّ بفريق دون فريق و لا بقوم دون قوم و تقول: من استنصركم لدينه فانصروه…
«تعاونوا علی البرّ و التقوی» (سورة المائده، الأية 2) و في هذه الأية أيضاً وقع الطلب علی إعانة الأخری علی أساس من الخير و التقوی و لم يختصّ ذلك بفئة معيّنة.
«… إنّما المؤمنون إخوة» (سورة الحجرات، الأية 10) و في هذه الأية سمّی الله تعالی المؤمنين «إخوة» و نعلم أنّ الأخوة الإسلاميّة أسمی من رابطة المصادقة و أسمی من رابطة التعاون و حينئذ كيف يمكن أن نختار مُعطي الزكاة حال الركوع في الصلاة صديقنا و نطلب منه العون وحده بينما إعتبر القرآن جميع المؤمنين إخوة لبعضهم البعض.
و القرآن كما نعلم كلام الله و ليس فيه إختلاف أو خطأ أو تناقض.
ظهر ممّا تقدّم بأنّ معنی الوليّ في أية الولاية لايمكن أن يكون الناصر او الصديق، لأنّ معناهما عامّ لايمكن أن يُحصر في فئة معيّنة.
الولي بمعنی الأولی بالتصرف
حين نأخذ الولي بمعنی المتولي للأمور أو مستحق بالتصرف، لا يتناقض هذا المعنی مع سائر آيات القرآن الكريم لأن هذا المعنی لا يمكن أن يعمّ الجميع، إذ ليس معنی ذلك أن يكون لكل أحد الأمر و النهي علینا أو الولاية علینا إلّا لأشخاص معيّنين من قبل الله تعالی، و هذه الأية تقول أنّ الولاية بعد الله و رسوله، التي هي بمعنی الأولوية بالأمر، من إختصاص شخص أو أشخاص و هم الذين يدفعون زكاتهم حال ركوعهم في الصلاة.
و هنا يلزم التعرّف علی هؤلاء الذين أعطوا الزكاة حال الركوع في الصلاة. من هم الذين نزلت هذه الأية فيهم و كانت الولاية لهم بعد الله و رسوله دون من عداهم؟ أدلّ دليل علی ذلك هو رجوع إلی سبب نزول الأية نفسها.
سبب النزول
ذكر مفسرو الشيعة(5) و أهل السنة و الجماعة (6) و أصحاب الرأي أنّ مسكيناً جاء مسجد النبيّ و استجدّ العون من المصلّین فلم يغثه أحد منهم إلّا الإمام علي بن أبي طالب (علیهما السلام) فقد أشار إلیه بإصبعه و هو راكع و في إصبعه خاتمه فأخذه السائل. و نزلت بعد ذلك هذه الأية (أی أية 55 من سورة المائدة) علی رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم).
بحث حول مختلف أقسام الأية
وصف المؤمنين الذين هم أصحاب منزلة الولاية علی المؤمنين
في الأية الكريمة إشارة خاصة إلی تلك الفئة من المؤمنين الحائزين علی مکانة الولاية و عرّفتهم بأنهم المؤمنون المؤدّون الزكاة حال كونهم راكعين.
من أجل كشف الواقع و معرفة الأية بصورة أجلی ينبغي دراسة كيفية دلالة الأية علی شخص من خلال وصفه و كيفية الإرشاد إلیه ليكون مرجع الناس.
و يمكن القول بصورة عامة أنّ شخصاً كهذا تتمّ معرفته أو وصفه بأمرين: إشارة المتكلم إلیه بعنوان يختصّ به و لا ينطبق علی غيره. الثاني: إشارة إلی صفة عامة من الممكن اتّصاف كثير من الناس بها. فمن كانت الصفة فيه اختصّ بالإشارة و أرشدت الصفة إلیه و كان موضع قصد المتكلم. و لأجل إيضاح المسألة نسوق مثالین حول ذلك يتناول الوصفين.
مثل الوصف من النوع الأول: الأستاذ و التلاميذ حين يُسأل الأستاذ عن أعلم التلاميذ فيجيب الأستاذ بأنه ذلك التلميذ الأكثر نظافة منهم. بما أنه لا يوجد تناسب بين الوصفين الأعلمية و النظافة، أراد الأستاذ أن يخصّ التلميذ بهذه الصفة ليرشد إلی أنه المقصود بالأعلمية و هو بهذه الصفة متميّز عنهم و هو المراد منهم. و الواقع أنّ الأستاذ بهذه العلامة المميّزة أعطی علامة خاصة لشخص بعينه و لايشمل هذا الملاك من إتصف بالنظافة بعد الإشارة لأنه لايقع تحت إطار جواب الأستاذ لحدوثه في زمن معيّن ليدلّ علی الأعلم و يشير إلیه. فإذا حدث و اتّصف تلميذ ما، بعد هذا الزمان بالعلامة المذكورة فإنه لا معنی له بعدئذ.
أجل قد يستفاد من جواب الأستاذ شأن آخر عن ما يراد بيانه أنه يتبادر إلی الذهن منه بأن النظافة توليها الأستاذ عنايته، كما أن من الممكن أن يستفاد من مجموع الجواب معنی آخر و هو إلفات نظر التلاميذ من قبَل الأستاذ إلی دعوتهم للتحلّي بالنظافة إن فاتهم الإتصاف بالأعلمية.
مثل الوصف من النوع الثاني إذا قال الأستاذ أعلمهم من كان أجدّهم أو أكثرهم تحصيلاً و أنكباباً علی العلم عندئذ لا يكون هذا علامة خاصة لأنّ هناك تناسب بين مراجعة الدروس و الأعلميّة. فكل من جدّ منهم و بذل جهده في التحصيل فإنه بالغ تلك الرتبة من الأعلمية و حينئذ يكون الأستاذ هنا قد أعطی علامةً عامّـة و جعل الدراسة و التحصيل مرادفين للأعلمية و لم ينحصرهما بشخص بعينه.
و لعطف هذا المطلب علی ما تقدّم نعود إلی الأية موضع البحث. فقد قال الله سبحانه و تعالی: وليّكم بعد الله و رسوله أولئك المؤمنون الذين يدفعون الزكاة و هم في حال الركوع في الصلاة. إنّهم الولاة علیكم أو هم ولاة أموركم و حينئذ علینا بالحذر و الدقة في موضوع الزكاة و الولاية لعدم التناسب بينهما و يكون الوصف الوارد بالأية للمؤمنين ـ الذين لهم الولاية علی الجميع ـ من الوصف الأول و أعطی الله عنوانه في زمن خاص ليدلّ سبحانه علی الشخص الذي يتولّاه المؤمنون بعد الله و رسوله و يولّی علیهم و بعد رجوع إلی سبب النزول يتجلّی لنا أنّ المقصود بالوصف هو الإمام علي (علیه السلام) ليس غيره.
كذلك يتبيّن من الأية حبّ الله لبذل الزكاة في حال الركوع و كأنه يخاطب المؤمنين بالواسطة بأنكم ليس بمقدوركم الولاية علی المؤمنين فعلیكم بهذه الصفة و هي بذل الزكاة و أنتم راكعون و لا تؤخروا دفع الزكاة إحتجاجاً بفعل الصلاة لأنّ الدفع في حالة الركوع يحبّه الله تعالی.
إرادة الواحد من الجمع:
و هنا أيضاً ينبغي الإلتفات إلی نقطة مهمة أخری فقد جائت الأية بلفظ الجمع «المؤمنين» و ربما سأل سائل ما وَجهُ الجمع هنا بينما المراد بالأية علی قولكم علي (علیه السلام) وحده.
و لنا بهذه المناسبة عطف الأذهان إلی استعمال المفرد في لغة العرب. فإنّه لا يطلق إلّا علی الواحد دون الجمع و التثنية ولكنّ العكس صحيح و قد استعمل كثيراً . فقد ورد اللفظ بصيغة الجمع و أريد منه الواحد و في القرآن من هذا أمثلة كثيرة، من قبيل: «وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون» (سورة المنافقون، الأية 5)
و «هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا وللّه خزائن السماوات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون» (سورة المنافقون، الأية 7)
و في هاتين الأيتين الخطاب علی المنافقين الذين يتّجهون إلی التكبر و النخوة فيقولون: لاتنفقوا علی أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله و سلّم) و بعد رجوعنا إلی أسباب النزول نجد الله سبحانه مع وضعه المنافقين جميعاً موضع الخطاب و حكم علیهم كلهم إلّا أنّ المصداق الخارجي لهاتين الآيتين إنّما هو شخص واحد و هو عبد الله بن أبي. و يمكن الرجوع إلی تفسير الطبري و أيضاً تفسير السيوطي نقلاً عن إبن عباس و سوف نری ما ورد عن إبن عباس في تفسير هاتين الأيتين. و نحن إبتغاءاً للإختصار نشير إلی بعض الأيات و أقوال المفسرين حول هذه الآيه فقط کأمثلة لاستعمال الجمع لمقصود مفرد:
1- سورة آل عمران، الأية 18 (تفسير القرطبي، مجلد 4، صفحة294)
2- سورة التوبه، الأية 61 (تفسير القرطبي، مجلد 8، صفحة 192، تفسير الخازن، مجلد 2، صفحة 253)
3- سورة النساء، الأية 10 (تفسير القرطبي، مجلد 5، صفحة 53، الإصابة، مجلد 3، صفحة 397)
4- سورة الممتحنة، الأية 8 (البخاري و المسلم و أحمد و إبن جرير و إبن أبي حاتم كما جاء في تفسير القرطبي، مجلد 18،صفحة 59)
5- سورة المائده، الأية 41 (تفسير القرطبي، مجلد 6، صفحة 177، الإصابة، مجلد 2، صفحة 326)
و …
و النتيجة من خلال المطالب آنفة الذكر هي أن استعمال الجمع للمفرد لا بأس به و في اللغة صيغ عدّة جاء الإستعمال علی هذا النحو. من ناحية أخری فإنّ استعمال الجمع للمفرد هنا و المقصود به ولي واحد دّل علی معنی أكمل في الذهن. بيان ذلك إنّ الخطاب موجّه للمؤمنين من الله تعالی فكأنّ المعنی هكذا: يا أيها المؤمنون إنكم ليس بإمكانكم بلوغ الولاية، فكونوا كعليّ بن أبي طالب (علیهما السلام)، أقام الصلاة و أتی الزكاة في وقت واحد فلم يشغل بأحدهما عن الأخری فلاتشغلكم الصلاة عن تأخير الزكاة فان وليّي علیّاً جاء بعبادتين معاً و لم يجعل أحدهما عذراً لتأخير الأخری. و قد مرّ هذا المعنی بشكل مفصّل فيما مضی.
في ختام البحث نذكر ما قاله الزمخشري حول المعنی المذكور (الزمخشري من كبار مفسري أهل السنة و قد ذكر هذا الموضوع في تفسير الكشاف تحت الآيه). قال:
“فإن قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه و اللفظ لفظ الجماعة؟ قلت: جيء به علی لفظ الجمع و إن كان السبب فيه رجلاً واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، و لينبّه علی أن سجية المؤمنين يجب أن تكون علی هذه الغاية من الحرص علی البرّ و الإحسان و تفقّد الفقراء، حتی إن لزهم أمر لايقبل التأخير و هم في الصلاة، لم يؤخّروه إلی الفراغ منها …”(7)
ماهية الولاية و سنخيّتها مع ولاية الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله و سلّم)
و حين نذهب بعيداً في التحقيق يتجلّی للعيان مطلب آخر من الآيه: ذلك أن الله تعالی مع ذكره ولايته و إتباعها بولاية رسوله و ولاية علي بن أبي طالب (علیهما السلام) و لكنّا نراه لم يستعمل الجمع «أوليائكم» بدلاً عن المفرد «وليّكم» و يمكن الإستدلال من تخصيص المفرد بالذكر في هذا المشهد أن الله تعالی أراد أن يعطي منزلة ولايته إلی النبي و الإمام علي صلوات الله علیهما مع عدم سلبها عن ذاته سبحانه، من سنخ ولايته إشارة منه إلی إتحاد الولايات الثلاثة في سنخيّة واحدة، حيث أنه لو كان قال: «أوليائكم» بالجمع، يتبادر إلی الذهن تعدد الولايات المختلفة لأشخاص مختلفين علی المؤمنين. لکن الله سبحانه لم يرد هذا المعنی بل أراد توحيد الولاية أی أن ولايته و ولاية نبيّه و وصيّه ولاية واحدة مع هذا الفارق و هو أن ولاية الله ذاتيه و بشكل مستقل و معنی ذلك أنّ الولاية لم تسند إلیه من كائن آخر سواه (إن الله الذي هو خالق جميع الأشياء و مختار في مشيئتة بالتصرف كيف يشاء . . . ) و لكن ولاية النبيّ و الإمام علي (عليهما السلام) من فضل الله علیهما و تخصيصه إيّاهما بها و هي مرتبطة بولايته سبحانه و هذا ما يقول به الشيعة من أن النبيّ و الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) عباد الله مربوبون و كل ما يسند إلیهم أو يعطی لهم هو من عند الله و من عطاء الله إياهم و لولا ذلك لما كانوا يملكون من أنفسهم شيئاً.
النتيجة
ظهر من جميع ما تقدّم أنّ:
1- القرآن بيّن مسألة الولاية علی المؤمنين بشكل دقيق ليس فيه لبس في آيات مختلفة من القرآن الكريم.
2- معنی الولاية المذكور في الأية هو ذلك المعنی الذي يتناول القيادة و إختيار التصرف و الأولوية بالأمر.
3- أثبتت الولاية من نظر القرآن في جماعة خاصة و سلبت من غيرهم.
4- مقام الولاية علی المؤمنين من منظر قرآني مختصّ في الأصل بالله تعالی و تكون مقبولة فيمن عداه حين كانت معطية من قبل الله.
5- علی المؤمنين الرجوع إلی أوليائهم في أمورهم جميعاً و إتباعهم و إتخاذهم قدوة حسنة.