كان ذلك الفجر آلف وأبهى فجر، من السنة الثالثة للهجرة، حيث استقبل بأصابع من نور، وليداً ما أسعده! وما أعظمه! في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور، سَنِيٌّ متألقٌ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك.
وأتاه الخبر: أنه وُلِدَ لفاطمة عليها السلام وليد، فإذا به صلى الله عليه واله يغمره مزيج من السرور والحزن، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة! . فماذا دهاك يا رسول الله! . بأبي أنت وأمي، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً؟ !
والنبي صلى الله عليه واله يُلقي نظرةً على المستقبل البعيد، ويُعرِّج فيه فيُلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزّه البُشر حيناً، ويهيج به الحزن أحياناً، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع، ودموع . . .
يبكي رسول الله صلى الله عليه واله. . وما أشجعه! ، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها، علي بن أبي طالب عليه السلام حينما يشتد به الروع، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو، ثم لا يفلُّ ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد، فما أعجبه من حادث!
قول أسماء:”فداك أَبي وأُمّي وممّ بكاؤك؟!”
قَالَ: “على ابْني هذا.”
قلْت: “إِنّه ولد السّاعة يا رسول الله”
فقال: “تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أَنالهم الله شفاعتي .” (1)
إن القضية التي تختلج في صدر رسول الله (صلى الله عليه واله) ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تُغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله. كلا. . بل هي قضية رسول، اصطفاه الله واختاره على علم منه، بعزمه و مضائه، و صدقه و إيمانه، إنها مسؤولية الرسالة العامة إلى العالمين جميعاً. و الحسين (عليه السلام) ليس ابنه فقط، بل هو قدوة وأسوة لمن يُنذر من بعده، فنبأ مصرعه هو بالذات نبأ مصرع الحق بالباطل، والصدق بالكذب، و العدالة بالظلم. . . وهكذا. فيبكي النبيُّ (صلى الله عليه واله) لذلك، ويحق له البكاء.
إنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع، والابتسامة بالكآبة؛ يتقدم جبرئيل (عليه السلام) فيقول:
“یا محمّد! العليّ الأَعلى يُقْرئك السّلام ويقول لك: «عليّ منك كهارون من موسى؛ سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون»
فيقول النبي صلى الله عليه واله: “و ما اسم ابن هارون؟”
فيجيب: “شَبِيرٌ.”
فيقول النبي صلى الله عليه واله: “لساني عربيّ؟ !”
فيجيب جبرائيل: “سمّه الحسين”. فسمّاه الحسين.(2)
ولم يزل ذلك الوليد المبارك يترعرع في أحضان الرسالة، ويعتني به صاحبها محمد صلى الله عليه واله وربيبها علي عليه السلام حتى بلغ من العمر زهاء سنتين، ولكن لم يتفتح لسانه عن أداء الكلام أبداً. عجباً! إن ملامح الوليد تدل على ذكاء مفرط، و مضاء جديد، و مع ذلك فَلِم لم يتكلم بعد، أيمكن أن يكون ذلك لثقل في لسانه؟ !
وذات يوم إذ اصطف المسلمون لإقامة صلاة الجماعة، يَؤمُّهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله)، و إلى جانبه حفيده الحبيب الحسين (عليه السلام)، ولمَّا تهيَّأ القوم للتحريم، كان الخشوع مستولياً على القلوب، و الهدوء سائداً على الجو، والكل ينتظرون أن يكبّر الرسول فيكبّروا معه، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول: «الله أكبر». إنه صوت الحسين عليه السلام. فكرر الرسول: الله أكبر. . . فأرجع الحسين الله أكبر، والمسلمون يستمعون ويكبِّرون، ويتعجبون! ! فردد الرسول صلى الله عليه واله ذلك سبعاً، و رجَّعه الحسين عليه السلام سبعاً، ثم استمر النبي صلى الله عليه واله في صلاته والحسين عليه السلام يسترجع منه. (3) فقد كانت أول كلمة لفظها فم الحسين عليه السلام كلمة التوحيد: الله أكبر.
وفيما نخطو مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة ننظر إلى هذا الوليد بالذات ذلك الذي لم يفتح فمه إلَّا على كلمة الله أكبر ننظر إليه بعد خمس و خمسين سنة و هو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدس، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طُرح على الرمضاء، تلفحه حرارة الشمس، ويمزّق كبده الشريف حرّ العطش، ويلفّه حر السلاح المصلصل. فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالما لمستهما شَفَتا رسول الله (صلى الله عليه واله) يتضرع إلى بارئه، يقول:
“إِلهِي. . . رضا برضاك، لا معبود سواك!” (4)
و لا يزال يتمتع حتى يُعرج بروحه الطاهرة المقدّسة إلى السماء، عليه أفضل الصلاة و السلام.
(مأخوذ من کتاب”الامام حسین (علیه السلام)، قدوة و أسوة”، تألیف: ” آیت الله السید محمد تقی المدرسی”)
بمناسبة الثالث من شعبان.. شهر “المنحة الإلهية”
يبارك موقع الرشد ويهنيء مسلمي العالم، وعلى الأخص أصدقاء الموقع الكرام
بالذكرى السنوية لميلاد الرحمة الإلهية الواسعة وسفينة نجاة الأمة
ثالث أئمة الشيعة
الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب )عليهم السلام(.
الهوامش:
1- عیون اخبار الرضا، المجلد 2، الصفحه 26
2- عیون اخبار الرضا، المجلد 2، الصفحه 26
3- التهذیب، المجلد 3، الصفحه 286
4- ینابیع الموده، المجلد 3، الصفحه 82