فنهض من نومه مرعوبا، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة و ليس من وساوس الشياطين، و قد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أخريين، [note] 1- و قيل: إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، و ليلة عيد الأضحى، و بهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من اللّه سبحانه و تعالى.[/note]فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.
إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة و خرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الابوّة جانبا و الامتثال لأوامر اللّه بذبح ابنه[note]2-إن الأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر امتحاني، و كما هو معروف فإنّ الأوامر الامتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل و إنّما الهدف منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر. كما أنّ الشخص الممتحن ليس له اطلاع بخفايا الأمور. مخاطبة الباري عزّ و جلّ عبده إبراهيم بعد الحادثة: “قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا” إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح ابنه العزيز و استعداده روحيّا لتنفيذ هذا الأمر، و نجاحه في هذا الامتحان. [/note] الذي كان ينتظره لفترة طويلة، و هو الآن غلام يافع قوي. و لكن قبل كلّ شيء، فكّر إبراهيم عليه السّلام في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قالَ :”… يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى…”.[note]3-سورة الصافات، الآیة 102 [/note]
الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، و الذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر و الثبات و الإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع و طيبة نفس، و بصراحة واضحة قال لوالده: “…قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ…”.[note]4-سورة الصافات، الآیه 102[/note]
و لا تفكّر في أمري، فانّك ” …سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين”[note] 5- سورة الصافات، الآیة 102 [/note]…
فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر 13 عاما بقضيّة الذبح، و يطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة. فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده، و دعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس، و جعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر اللّه و الرضى به، كما استشعر حلاوتها هو.
و من جهة اخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم و تصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له: اذبحني، و إنّما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنّني مستسلم لهذا الأمر، و خاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة “يا أَبَتِ” كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه و لو بمقدار ذرّة، و أنّ أمر اللّه هو فوق كلّ شيء.
و بهذا الشكل يجتاز الأب و ابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.
لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير اللّه، و جعله متنوّرا- فقط- بعشق و حبّ اللّه، فقد عمد الشيطان- كما جاء في بعض الروايات- إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.
فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) و يقول لها: أ تعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم! فكانت تجيبه هاجر: اذهب و لا تتحدّث بأمر محال، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟
الشيطان هنا يواصل وساوسه، و يقول: إنّه يزعم بأنّ اللّه أمره بذلك.
فتجيبه هاجر: إذا كان اللّه قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر اللّه، و ليس هناك طريق آخر سوى الرضى و التسليم لأمر اللّه.
و أحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه، لكنّه فشل أيضا إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى و التسليم لذلك الأمر.
و أخيرا اتّجه نحو الأب، و قال له: يا إبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان! فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان و النبوّة، و صاح به: ابتعد من هنا يا عدوّ اللّه.[note]6-تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلّد 9، الصفحة 326 [/note]
قربت اللحظات الحسّاسة، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ، فعند ما رأى إبراهيم عليه السّلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه و قبّل وجهه، و في هذه اللحظة بكى الاثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية و مقدّمة الشوق للقاء اللّه.
القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة و لكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: “فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ.”[note]7-سورة الصافات، الآیة 103 [/note]
على أيّة حال كبّ إبراهيم عليه السّلام ابنه على جبينه، و مرّر السكّين بسرعة و قوّة على رقبة ابنه، و روحه تعيش حالة الهيجان، و حبّ اللّه كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر و من دون أي تردّد إلّا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة…
و هنا غرق إبراهيم في حيرته، و مرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده، و لكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة.
نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: اذبحي، لكنّ اللّه الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي، و السكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزّ و جلّ…
و هنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار و بعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة: ” وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ”.[note]8-سورة الصافات، الآیة 104 و 105[/note]
إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان، و نحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماما و بكلّ وجوده للأمر الإلهي و يصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: ” إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ”.[note]9-سورة الصافات، الآیة 106[/note]
فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «اللّه أكبر» «اللّه أكبر» أثناء عمليّة الذبح لتعجّبه.
فيما هتف إسماعيل «لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر».
ثمّ قال إبراهيم «اللّه أكبر و للّه الحمد» .[note]10-تفسير القرطبي، و تفسير روح البيان [/note]
و هذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.
و لكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا، و تتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان للّه، بعث اللّه كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل، و لتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ و تأتي إلى أرض (منى) “وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ”…[note]11-سورة الصافات، الآیة 107 [/note]
من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الامتحان الكبير يتعدّد أشكالها، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات و تتلوّن بعدّة ألوان، فلذا يجب علینا أن نكون كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان و معرفته بسرعة مهما كان متسترا بشكل من الأشكال، و إغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه و رميه بالحجارة…
(مأخوذ من تفسیر الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، تألیف: آیة الله مکارم الشیرازي)
نبارك جميع العباد بقدوم
عـيــد الأضـحـی
عيد تحرر من العلائق و المنايا و الرغبة في العمل و النظر إلي رضاية المحبوب
………………………………………………
الهوامش;