تركّزت الأبصار على مدخل المسجد الحرام. كان القوم بانتظار لمعرفة الشخص الذي سيطأ قدمه باب المسجد. و کان قد اقترح زعيم قريش في زمن الجاهلية(1) أن يقبلوا أول من يدخل من باب المسجد ليكون الحَكم بين القوم لرفع الخلاف بين القبائل …
و الكعبة کانت بحاجة بشی ء من الترميمات، و كان ترمیم كل جزء من الكعبة علی عاتق أحد قبائل قريش. و لما اكتملت بناء الكعبة بلغوا موضع الحجر الأسود.(2) و لقد كان نصب حجر الأسود ذا أهمية بالغة و مفخرة عند القبائل بحيث اختلفوا في من يضعه في مكانه الى أن كادت الأمور تصل الى الحرب. في نهاية الأمر، شاوروا فيما بينهم و قدّم كبيرهم اقتراحاً على أن يكون أول داخل على المسجد الحرام هو الحَكم بينهم، و وافقوا على ذلك.
تم الإنتظار و دخل رجل فی المسجد. فرحوا الجماهیر برؤیته و قالوا: “هذا الأمين، قد رضينا بحكمه، هذا هو محمد” لقد رضی الجميع بأن محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) سيكون الحكم بينهم. طرح النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) حَلاً جديداًليسوّي الخلاف بينهم. طلب رداءاً و قام بوضع الحجر الأسود في وسطه و قال ليحمل كل قبيلة طرفاً من الرداء. فحملوه ثم قام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بوضع الحجر الأسود في مكانه بيديه الشريفتين. (3)
لقد اشتهر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) منذ شبابه بخصال طيبة و لم ترَ منه الأعين أية شائبة أو رجس، و كان ذا شخصية متينة و أخلاق رفيعة. لم يسبق له أن حضر مجالس اللهو و التسلية قط. و كان يحسن معاملة الضيف و الجار و كان أهل صلة الرحم، و دائم العون للضعفاء و المساكين. فلقد كانت هذه الأوصاف تُذكر على لسان أهل الجاهلية.(4) كانت هذه الصفات سبباً بأن يتخذه الناس في الجاهلية حكماً فيما بينهم لحل خلافاتهم و لأجل المشورة.(5) و لقد اشتهر في ذلك الوقت بلقب «الأمین»،(6) کما سموه به ایضا فی نصب الحجر و أحدی الصفات الأخرى التي عرف له عند المشركين هو الصدق، فعند ما أعلن نبوته فوق جبل الصفا، فقد أقرّ الحاضرون به و قالوا: “إننا لم نسمع منك كذبةٍ قط.” (7)
لقد كان هذا جانب من سيرة النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم)، و ذلك في أجواء الشرك في زمن الجاهلية في شبه الجزيرة العربية، بحيث كان يواجه رجال غير متحضّرين يعاملون في حقه بأقسى معاملة و أصعبها. و على رغم العداء الذي كان يكنُّ له الجاهلين في تلك الفترات من التاريخ و لكنه استمر في التعامل معهم بالصدق و الأمانة.
إن هذا الموضوع، علاوة على منفعتها على عامة البشر، و لكنه ذو أهمية خاصة لنا المسلمين. في حقيقة، كيف نتعامل بالصدق و الأمانة في حياتنا اليومية و بين أصحابنا و زملائنا؟ في الواقع، إذا كان شخص ذا مرتبة رفيعة يتجنّب الخيانة و الدنس في بيئة مكة المليئة بالمعاصي قبل البعثة، فما هي وظيفتنا إذاً في مقابل أصدقائنا و زملائنا؟
( مأخوذ من کتاب “تاریخ الإسلام السیاسي، سیرة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)”، التألیف: رسول الجعفریان (مع التصرف والإضافات))
بمناسبة حلول 27 رجب،
يبارك و يهنئ موقع الرشد أحرار العالم
و بخصوص أصدقاء الموقع الأعزاء،
ذكرى بدأ نزول القرآن و بعثة خاتم الأنبياء،
محمد المصطفی (صلی الله علیه و آله و سلم).
الهوامش:
1- إن الحجر الأسود حجرٌ مقدس جداً و هو جزء من المسجد الحرام و تقع عند الكعبة المشرفة. لقد كان الحجر الأسود واقعا عند الكعبة المشرفة منذ بناءها قبل الإسلام و بعده، و لقد كان دائماً مرکز توجه الناس و قد نقل في الروايات ان الحجر الأسود من أحجر الجنة و قد أتى مع هبوط النبي آدم (علیه السلام) من الجنة.
2- لقد كان الأعراب في زمن الجاهلية قبل بعثة النبي الأكرم (صلی اله علیه و آله وسلم)مشركين و عبدة الأصنام. يصف مولى المتقين الإمام علي (عليه السلام) في خطبة 26 من نهج البلاغة حال العرب في عصر الجاهلية: “وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الاصنام فيكم منصوبة، والاثام بكم معصوبة.”
3- سیرة النبي، المجلد 1، الصفحة 214-209
4-سبل الهدی و الرشاد، المجلد 2، الصفحة 198
5- سبل الهدی و الرشاد، المجلد2، الصفحة 202
6- سبل الهدی و الرشاد، المجلد 2، الصفحة 202
7- سبل الهدی و الرشاد، المجلد 2، الصفحة 200