إن إحدى الطرق في تعريف الأنبياء هو تبشير النبي الذي ثبت نبوته بالأدلة القطعية بنبوة النبي الذي سيأتي من بعده و أن يكون تصريحه في التبشير بطريقة تزول أي شك و ريب عند التطبيق و التعريف. إن نبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه و آله و سلم) إضافة الى ثبوتها بالأدلة الواضحة الثابتة، فقد صرح بنوبته الكتب السماوية للأنبياء السابقين، و قد شُخص اسمه و خصوصياته في العهدين التوراة و الأنجيل. و نذكر شاهداً على هذا: فقد ذكر الله تعالى في الآية 6 من سورة الصف قول عيسي(عليه السلام) مصرحاً: “إني رسول الله اليكم… َمُبشِّراً بِرَسُول يأتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ اَحْمدَ… “.(2) عندما نزلت هذه الآية و غيرها من الآيات المماثلة و قرأها النبي على الناس في جزيرة العرب، كان ثلة من اليهود و النصارى يعيشون هناك و إن لم يكن هذه التبشير في كتبهم فإن علمائهم كانوا يتمسكون بها و يعترضون عليها؛ و لكن بناءاً على قضاوة التاريخ الصريح فإنهم أمام هذه التصريحات فقد صمتوا بل ألتحق جماعة منصفة منهم الى صفوف المسلمين.
فإذاً تواجد بشارة المسيح عيسى (عليه السلام) في إنجيله، و إذا فرضنا ان هذه البشارة لم تُذكر في الأناجيل الحديثة فهذا لا يعني انه لم يأتي البشارة في إنجيل المسيح. لأن الأناجيل الحاضرة تشهد إن من الحواريين و غير الحواريين كتبوا الأنجيل و وذكروا فيها أقوال المسيح (عليه السلام) و أفعاله و أوامره اتكالاً على رأي أنفسهم، و لم يكتفوا بذلك بل أضافوا إليها مسموعاتهم و ما رآه و ما قد ظنوا به و قد نشروا ذلك باسم الانجيل. فإذاً، ليست أي من هذه الأناجيل أنجيل المسيح (عليه السلام).(3) و لكن من أين أن إرادة الرب تتعلق بتلألأ برهان القرآن و نبوة الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله و سلم) في كل الأعصار فقد، وردت بشارة مجيء نبي باسم أحمد من بعد عيسي في أنجيل يوحنا بالتصريح. و بما ان مفسري الإنجيل بذلوا كل الجُهد لكي يفسروا هذه البشارة بطريقة أخرى، و لكن مع دقة أكثر تتّضح الحقيقة…
في الأنجيل المكتوب باللغة السريانية (4) فقد استخدم لفظ “فارقليط” اسماً لذلك الشخص الذي بشر به النبي عيسى (عليه السلام). إن فارقليط لفظ في لغة السريانية التي تكلم بها أهل سوريا. اتفق علماء الإسلام و مفسري الإنجيل بأن هذا اللفظ لفظ يوناني التي كتب بها إنجيل يوحنا، و لكنهم اختلفوا حول موضوع ماهية أصل اللفظ في اللغة اليونانية. يعتقد محققوا الإسلام بأن أصل هذه الكلمة في اليونانية، ” بيركلوطوس ” و هو بمعنى محمد و أحمد، أما مفسروا الإنجيل اعتقدوا أن أصلها “باراكلي طوس” و هو بمعنى المسلّي، و لذا فإن أكثر مفسري الإنجيل فسروها بالروح المقدس. لذا يجب أخذ حقيقة المعنى في المقرانة في هذه الآيات.
جاء في إنجيل يوحنا في باب 15 و 16: “إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب ، روح الحقّ الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي”.(5) . “لكنّي أقول لكم الحق انّه خير لكم أن أنطلق لأنّي إن لم أنطلق لم يأتكم الفار قليط فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم…. و إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم و لكنّكم لستم تطيقون حمله الآن، و إذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلّمكم جميع الحق لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع و يخبركم بما سيأتي، و هو يمجّدني لأنّه يأخذ ممّا هو لي و يخبركم، جميع ما هو للأب فهو لي فمن أجل هذا قلت إنّ ممّا هو لي يأخذ ويخبركم”.(6) و (7)
إذا التفتنا إلي الموضوع بدقة، هناك قرائن واضحة تشهد بأن المراد من فارقليط هو نبيٌ يأتي بعد المسيح (عليه السلام) و ليس روح القدس. و كمثال، يستفاد من بعض التواريخ المسيحية انه قبل الإسلام فقد كان هذا أمراً مقضياً بين علماء و مفسري الأنجيل ان فارقليط هو ذاك النبي الموعود. و كان هناك مجموعة أساؤوا الاستفادة من هذا الموضوع و ادّعوا انهم فارقليط الموعود. نذكر مثالاً و هو إنّ «منتنس» المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد و كان مرتاضاً شديداً ادّعى في قرب سنة 177 من الميلاد أنّه هو الفارقليط الموعود الذي وعد بمجيئه عيسى (عليه السلام) و تبعه اُناس (8)
و من ناحية أخرى فإن الامتيازات و الشرائط و النتائج التي ذكرها النبي عيسى (عليه السلام) في فارقليط، يمنع من أن نفسر فارقليط بروح القدس. بل يتبين قطعاً ان المقصود من فارقليط هو ذاك النبي الموعود. فكمثال يذكر المسيح: “إن لم أنطلق لم يأتكم الفار قليط”.(9) فعلّق مجيئه بذهاب نفسه مع أن نزول روح القدس على المسيح (عليه السلام) و حتى الحواريين غير معلّق على ذهاب المسيح بشهادة أنّه نزل على الحواريين في حضور المسيح، لمّا أرسلهم إلى الأطراف و الأكناف بناءاً على العقائد المسيحية(10) فنزوله ليس مشروط بذهابه،…….. فلابد أن يكون المراد منه شخص يكون مجيئه موقوفاً على ذهاب المسيح كما هو الحال في النبي الخاتم، إذ هو نبي صاحب شريعة سماوية، لأنّه جاء بعد ذهاب المسيح، و كان مجيئه موقوفاً على ذهابه.
و بعد دقة أكثر في هذه المقارنات فإنها يوصلنا الى الحقيقة التي أوصلنا إياه محققي الإسلام. و لكن هذه المقارنات ليست منحصرة فيما ذُكرت بل هناك مقارنات متعددة أخرى في هذا الصدد.(11)
في الخاتمة، نذكر أمراً مثيراً للاهتمام و هو ما ذكره دائرة المعارف الفرنسية في هذا الصدد: “إن محمداً هو مؤسس دين الإسلام و رسول الله و خاتم الأنبياء. إن كلمة محمد بمعنى “المحمود كثيراً” و هو مشتق من مصدر “حمد” و الذي هو بمعنى التمجيد و التجليل. و بالمصادفة العجيبة، ان هناك اسم آخر يشتق من كلمة “حمد”، و هو مترادف كاملاً من لفظ “محمد”، و هو كلمة “أحمد” و هناك احتمال قوي ان العيسويين في الحجاز استخدموا هذا اللفظ لتعيين فارقليط. إن كلمة أحمد يعني كثير الجلالة و التحميد، هو ترجمة لفظ ” بيركلوطوس” الذي وضع بدلاً منه لفظ “باراكلي طوس” خطئاً. و مع هذا الترتيب فقد كرر كتّاب المسلمين قولهم ان المراد من هذا اللفظ هو بشارة ظهور رسول الإسلام. و يشير القرآن الكريم بطريقة علنية في آية معجبة من سورة صف حول هذا الموضوع.”(12)
(مأخوذ من كتاب “أحمد، موعود الانجيل”، التأليف: آيت الله جعفر السبحاني)
27 رجب، يبارك و يهنئ موقع الرشد أحرار العالم
بذكرى بعثة موعود الأنبياء الإلهي، خاتم الرسل
محمد المصطفى (صلى الله عليه و آله و سلم) .
—————————————————————————————————————
الهوامش :
1- ما ذُكر في هذه المقالة مجرد خلاصة من الواقع و إذا أحببتم المعرفة أكثر في هذا الخصوص، فيمكنكم مراجعة المرجع الأصلي لهذه المقالة.
2- « و اذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل اني رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه احمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين »، (سورة صف، الآية 6)
3- أيضاً ان انتساب هذه الكتب الاربعة بمؤلفيهم ليس قطعي، و لم يأخذوا مطالب الكتاب مستقيماً من المسيح سوى من أنجيل متى. في الحقيقة كانت أنجيل مرقس خلاصة بيانات بطرس، و استفاد برنابا من أفكار بولس و نقل عنها. لتوضيح أكثر نرجو مراجعة المنبع الأصلي لهذه المقالة.
4- إن لغة السرياني كاللغة العربية فقد جاءت من اللغة السامية. و إن أنجيل السيد المسيح (عليه السلام) بما انها كانت باللغة العبرية و لسان أمه و الاشخاص الذين كانوا يصاحبونه في الصغر لم تكون سوى العبرية، و لكن حسب الأخبار و الروايات فقد كان ماموراً بتفسيره الى اللغة السريانية للسريانيين و هم من أهل سورية.
5- انجيل يوحنا، باب 15، الجملة 26، ننقلها عن التراجم العربية المطبوعة عام 1821م وسنة 1831م وسنة 1844م في مدينة « لندن»
6- انجيل يوحنا، باب 16، الجملة 7 – 15
7- إضافة الى باب 15 و 16 إنجيل يوحنا، فقد جاء أيضاً في باب 14، جملات 15 و 16 و 17 و 25 و 26 و 29 حديثاً عن فارقليط و قد ذُكر حقائق أخرى في هذا الخصوص و يمكنكم مراجعة نصه.
8- أنيس الاعلام، المجلد2، الصفحة 179 نقلاً من تاريخ “ويليام ميور” المطبوعة في سنة 1848.
9- انجيل يوحنا، باب 15، الجملة 7
10- انجيل متى، باب 10، الجملة 29- أنجيل برنابا، باب 10، الجملة 17
11- لبحثٍ أدق يمكنكم مراجعة كتاب “أحمد موعود الأنجيل” أو الكتاب النفيس “أنيس الأعلام” الذي هو إحدى منابعه المستفيدة فيه.
12- محمد خاتم الأنبياء، المجلد 1، الصفحة 504، نقلاً عن دائرة المعارف الكبيرة الفرانسية، المجلد 23، الصفحة 4174